تقع مدينة غزة على بعد (104كم) إلى الجنوب الغربي من القدس . ويزيد عدد سكانها عن 230 ألف نسمة ، وهي بذلك واحدة من أكبر وأهم المدن الفلسطينية ، وهي على حافة الأراضي الخصبة، العذبة المياه التي تأتي مباشرة بعد صحراء سيناء، وعليه فهي المحطة الطبيعية لكل من الآتين من مصر ووجهتهم الشام ، كما أنها المحطة الأخيرة لكل قادم من الشام ووجهته مصر؛ مما جعلها مجمعًا للقوافل التجارية وغيرها قبل دخول البادية. ففيها يستكملون ما يلزمهم قبل المرور بالصحراء القاحلة التي ستعترضهم في طريقهم إلى مصر( ) . هذا ولما كانت غزة مرسى الصحراء أصبحت أيضا مركزًا للبدو الذين يأتون إليها من مئات الأميال لشراء ما يلزمهم من ملبوس، وسلاح، وفخار، وغيرها . ولموقع غزة التجاري - لوقوعها في نهاية طريق القوافل العربية الآتية من الجنوب - أهمية كبيرة في ثرائها ورخائها ، كما كانت تبعث بخيرات بلاد العرب والهند وغيرها من المدن الواقعة على الطريق بين مصر والعراق ، الشيء الكثير من المآسي والفواجع من جراء الحروب التي قامت بين فراعنة مصر وأهل العراق وآشور وبابليين ، ثم البطالسة والسلوقيين من خلفاء الإسكندر ( ) وعلاقة غزة مع العرب قديمة منذ أقدم الأزمنة وكان الروم يقيمون فيها سوقًا في موسم معلوم كانت قريش في الجاهلية تحضره.... وقبل أن يفتح المسلمون غزة كان العرب يكثرون من التردد عليها للتجارة فقد نزلها أمية بن أبي الصلت الثقفي ، وتُوفِّى بها- (هاشم بن - وما زال قبره للآن- ونسبة إليه دعيتعبد مناف) - الجد الثاني للرسول غزة باسم : "غزة هاشم" كما أن والد النبي (عبد الله) كان قد نزل غزة للتجارة ولما عاد منها إلى الحجاز مرض في طريقه إلى المدينة المنورة، فمات بها وأما عمر بن الخطاب فقد كسب مكاسب حسنة من تجارته في غزة.
ولما وصل كتاب الرسول إلى الإمبراطور هرقل الذي يدعوه فيه إلى الإسلام ، نادى الإمبراطور صاحب شرطته وأمره أن يبحث له في سوريا عن حجازي من قوم محمد. فوجد صاحب الشرطة (أبا سفيان بن حرب) ونفرًا من تجار قريش في غزة أتوا للتجارة فأخذهم منها وأرسلهم إلى هرقل في القدس ، وقصة الحديث الذي جرى بين هرقل وبينهم مشهورة في صحيح البخاري ( 1/4 - 6 ) وفي كتاب الأغاني (6/ 345 ) وما بعدها. وفي غزوة بدر -27 رمضان 2هـ/16 آذار 624م- هاجم المسلمون قافلة تجارية عظيمة لقريش كانت عائدة من غزة ، فيها ألف بعير ومعها من المال خمسون ألف دينار.( ) ( )
وفي سنة 633 م ، وجه الخليفة أبو بكر الصديق إلى سورية ثلاث سرايا لغزوها : قاد الأولى عمرو بن العاص ، وتولى الثانية يزيد بن أبي سفيان مع أخيه معاوية ، وترأس الثالثة شرحبيل بن حسنة .
ثم انضمت إلى السرايا فيما بعد إمدادات عديدة ، قاد إحداها أبو عبيدة بن الجراح . وقد وقع الصدام الأول بين هذه السرايا العربية وجيش الروم في وادي العربة ، وهو غور عظيم جنوبي البحر الميت . وكان النصر فيه ليزيد على سرجيوس الروم بطريق فلسطين . ففر أمام المقاتلين العرب ، لكنهم لحقوا بجيشه المنهزم ، وأدركوه في "داثن" ( ) بالقرب من مدينة غزة ، على مسيرة ثلاث ساعات منها ، وكادوا يجهزون عليه في سنة 634م في شباط ويعتقد أن عمرو بن العاص هو الذي فتح غزة في غضون عام 634م . وعزا بعضهم فتحها إلى علقمة ابن المحرز . وفي أواخر القرن الثامن الميلادي عانت غزة كثيرًا ، وغيرها من مدن المنطقة أيضًا ، تطاحن القبائل العربية . لكنها كانت بعد كل حصار وهدم تعود فتنهض من كبوتها ، وترمم ما تهدم منها ، وتلم شعث أبنائها ، بحيث صح لابن حوقل والمقدسي ، في القرن العاشر الميلادي ، أن يقولا عنها في وصفها : إنها مدينة كبيرة وغنية ، ولها مسجد جامع يلفت الأنظار بجماله . وهو المسجد الذي حل ولا شك محل الكنيسة الكاتدرائية ، التي كانت حلت بدورها محل معبد الأوثان الآنف الذكر ، الذي كانت تفاخر به مدينة غزة سائر المدن الهلنستية والرومانية ... وفي مطلع القرن الثاني عشر الميلادي ، عندما بلغ الصليبيون الإفرنج فلسطين ، كانت غزة شبه مهدمة . لكنهم في سنة 1152م رمموها ، وبنوا فيها حصنًا أقطعوه فرسان الهيكل ؛ لكي يدافعوا فيه عن المدينة . وقد حاصر صلاح الدين الأيوبي المدينة سنة 1170م ، واستولى عليها ، ما عدا حصن فرسان الهيكل الذي لم يسقط بين يديه إلا بعد معركة حطين سنة 1187م ، على أن الملك ريتشارد قلب الأسد استطاع أن يسترجعها ، وأن يحتمي فيها ردحًا من الزمن ، ثم اضطر إلى تسليمها للجيوش العربية وفي عهد المماليك ، أضحت غزة مملكة شبه مستقلة . وفي القرن الرابع عشر الميلادي ، قال عنها أبو الفداء : إنها مدينة بين الكبيرة والصغيرة ، وفيها حصن صغير ، وحواليها بساتين يانعة ، تفصل الرمال بينها وبين البحر. أما ابن بطوطة فيقول : إنها مدينة كبيرة ، خالية من الأسوار مع أنها آهلة بالسكان ، وحافلة بالمساجد ، ومنها مسجد جديد بناه الأمير الجاولي ، فاستبدله بالمسجد الجامع القديم . ولعل هذا المسجد هو الذي يشاهد حتى يومنا هذا . وقد كان في الأصل كنيسة لرهبان ماريوحنا الفرسان . وفي القرن الخامس عشر ، يحدثنا خليل الظواهري عن غزة ، فيقول : " إنها عاصمة مملكة واسعة الأطراف ، وإنها مدينة جميلة البنيان ، في وسطها سهل فسيح تحفه الأشجار المثمرة ، وأنها حافلة بالمساجد والمدارس والآثار العمرانية الأخرى " ( ) .
والملاحظ منذ القدم هو أن : هذه المدينة - غزة - من أغنى مدن فلسطين بالمساجد، ومعظم مساجدها قد أُنْشِئَتْ في عهد المماليك الذين كان لهم دور كبير في إحياء كثير من المنشآت العمرانية ، سواء كانت هذه المنشآت دينية كالمساجد، والمقامات، والمزارات ، أو مدنية حضارية: كالمستشفيات، والبيمارستانات، والحمامات.
ولقد تركزت اهتمامات المماليك على مدينة غزة بالذات، لأنها كانت تشكل مركز النيابة، حيث قاموا بتشييد وترميم عدد كبير من الجوامع والمساجد التي تنم عن العمارة وازدهارها في ذلك الوقت. ومدينة غزة لم تكن هي الوحيدة في هذا المجال، بل إن مدينة القدس قد نالت جانبًا كبيرًا من العمران المملوكي، بل قل : النصيب الأكبر، حيث كان النشاط العمراني قد انصب على مدينة القدس وما حولها ( ) .
وفي مدينة غزة توجد كثير من البنايات المشيدة على الطراز المملوكي، ومن أهم هذه البنايات: المساجد . وفي هذا البحث سنتحدث عن أهم المساجد الأثرية في هذه المدينة وإضافة للمساجد نورد هنا أهم الأماكن والبقاع الأثرية القديمة حيث اندثر الكثير منها وطمس المحتل أجزاء كبيرة منها ، وأوردناها لتوثيقها للأجيال وهي مما كتبه المؤرخ الكبير عميد مؤرخي فلسطين وابنها البار الأستاذ المؤرخ مصطفى مراد الدباغ – رحمه الله - في كتابه القيم : " بلادنا فلسطين " في مجلداته الأحد عشر – الذي أضحى ملهمًا للأجيال ومجسداً لذاكرة فلسطين بواسطة الأرض والإنسان ومن ثم التاريخ