عندما اجتاحت جحافل التتار مقر الخلافة الإسلامية في بغداد ، وقتلوا الخليفة وأسقطوا الخلافة للمرة الأولى في التاريخ سنة : ( 656هـ 1256م) ، استولوا بعدها على بلاد الشام ، ثم بدأت أنظارهم تتجه إلى مصر للاستيلاء عليها .
وكان والي مصر آنذاك المنصور علي بن علي بن عز الدين أيبك ( 655 – 1257هـ) وكان عمره خمسة عشر عاماً ، وهي سن لا يمكن لصاحبها أن يواجه الخطر المحدق بالأمة وأن يتخذ القرارات الصائبة لردعه ، فلم يجد سيف الدين قطز بداً من خلع الملك الصغير فخلعه وتولى الملك ( 656 هـ) . وبعد هذه الخطوة الجريئة جمع قطز قادته قبل المسير ، وشرح لهم خطورة الموقف ، وذكرهم بما وقع من التتار في البلاد التي غزوها من شنيع السفك والتخريب ، وما ينتظر مصر وأهلها من مصير مروع إذا انتصر التتار ، وحثهم وهو يبكي على بذل أرواحهم في سبيل إنقاذ الإسلام والمسلمين من هذا الخطر الداهم ، فضج القادة بالبكاء ، ووعدوا ألا يدخروا وسعاً في سبيل مقاتلة التتار ، وإنقاذ مصر والإسلام من شرهم
المعركة:
خرج قطز في الجيوش الشامية والمصرية ، في شهر رمضان سنة ثمان وخمسين وستمائة هجرية ( 1260م ) ، ووصل مدينة ( غزة) ، وكان فيها جموع التتار بقيادة ( بيدر) ، فداهمها واستعاد غزة من التتار ، وأقام بها يوماً واحداً ، ثم غادرها شمالاً.
وكان كتبغانوين - قائد التتار على جيش هولاكو قد بلغه خروج قطز ، وكان في سهل البقاع ، فعقد مجلسا استشارياً لذوي الرأي ، فمنهم من أشار بعدم لقاء جيش قطز في معركة والانتظار حتى يأتيه مدد من هولاكو – وكان هولاكو قد سافر إلى الصين لحل خلاف وقع بين أخويه - ، ومنهم من أشار بغير ذلك اعتماداً على قوة التتار التي لا تقهر – حسب زعمهم - ، وهكذا تفرقت الآراء .
وبعث قطز طلائع قواته بقيادة الأمير ركن الدين بيبرس لمناوشة التتار واختبار قوتهم ، وتحصيل المعلومات المفصلة عن تنظيمهم وتسليحهم وقيادتهم ، فالتقى بيبرس بطلائع التتار في مكان يقع بين ( بيسان) و ( ونابلس ) و يدعي
عين جالوت) في ( الغور) غور الأردن ، وشاغل التتار حتى أتاه قطز ببقية الجيش .
وفي يوم الجمعة الخامس والعشرين من شهر رمضان المبارك ، من سنة ثمان وخمسين
وستمائة هجرية نشبت المعركة بين الجيشين ، وكان التتار يحتلون مرتفعات ( عين جالوت ) ، فانقضوا على جيش قطز تطبيقا لحرب الصاعقة التي دأب التتار على ممارستها في حروبهم ، تلك الحرب التي تعتمد على سرعة الحركة بالفرسان ، فقتلوا من المسلمين جماعة كثيرة .
وتغلغل التتار عميقاً ، واخترقوا ميسرة قطز ، فانكسرت تلك الميسرة كسرة شنيعة ، ولكن قطز حمل بنفسه في طائفة من جنده ، وأسرع لنجدة الميسرة ، حتى استعادت مواقعها .
واستأنف قطز الهجوم المضاد بقوات ( القلب ) التي كانت بقيادته المباشرة ، وكان يقدم جنوده وهو يصيح : " وا إسلاماه .. وا إسلاماه .. " واقتحم قطز القتال، وباشر بنفسه ، وأبلى في ذلك اليوم بلاء عظيماً ، وكانت قوات ( القلب ) مؤلفة من المتطوعين المجاهدين ، من الذين خرجوا يطلبون الشهادة ، ويدافعون عن الإسلام بإيمان ، فكان قطز يشجع أصحابه ، ويحسن لهم الموت ويضرب لهم المثل بما فعله من إقدام ويبديه من استبسال .
وكان قطز قد أخفى معظم قواته النظامية المؤلفة من المماليك في شعب التلال ، لتكون كمائن ، وبعد أن كر المجاهدون كرة بعد كرة حتى زعزعوا جناح التتار، برز المماليك من كمائنهم وزادوا من ضغط القتال على التتار .
وكان قطز أمام جيشه يصرخ : " وا إسلاماه .. وا إسلاماه .. يا الله ! انصر عبدك قطز على التتار " ، وكان جيشه يتبعه مقتديا بإقدامه وبسالته ، فقتل فرس قطز من تحته ، وكاد يعرض نفسه للقتل لولا أن أسعفه أحد فرسانه ، فنزل له عن فرسه .
وسارع قطز إلى قيادة رجاله متغلغلاً في صفوف أعدائه ، حتى ارتبكت صفوف التتار ، وشاع أن قائدهم (كتبغانوين ) قد قتل ، فولوا الأدبار لا يلوون على شيء .
وكان ( كتبغانوين ) يضرب يمينا وشمالاً غيرة وحمية ، فطلب منه جماعة من اتباعه الهرب ، فرفض وقال لهم : " لا مفر من الموت هنا ، فالموت مع العزة والشرف خير من الهرب مع الذل والهوان " .
ورغم أن جنوده تركوه وهربوا ، فقد ظل يقاتل حتى قتل .
واختفى فوج من التتار في مزرعة للقصب ، فأمر قطز جنوده أن يضرموا النار في تلك المزرعة ، واحرقوا التتار جميعاً .
وبدأ المسلمون سواء من الجيش أو من عموم المسلمين بمطاردة التتار، وامتدت المطاردة السريعة إلى قرب مدينة حلب ، فلما شعر التتار باقتراب المسلمين منهم ، تركوا ما كان بأيديهم من أسارى المسلمين . ودخل قطز دمشق في أواخر شهر رمضان المبارك ، فاستقبله أهلها بالابتهاج .
هذه هي معركة عين جالوت ، وتلك هي فصولها تنطق بحق وتتكلم بصدق لتحكي لنا ميلاد
أمة تفرقت فهزمها أعداؤها ، فلما توحدت هزمت أعداءها ، إنه درس آخر من دروس الزمان يبين بجلاء أن اجتماع الأمة هو مصدر قوتها بعد تمسكها بدينها وجهادها في سبيله ، وأن الأعداء لن يقفوا أمامها ساعة لو طبقوا هذا الدرس ، نسأل المولى عز وجل أن يجمعنا على الحق والهدى ، إنه ولي ذلك والقادر عليه والحمد لله رب العالمين .