هل ضرب الله سبحانه وتعالى أمثلة في القرآن من صبر الأنبياء هي تثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم فقط وحكاها الله له لأنها مثال لما ينبغي أن يكون عليه الأنبياء أما عامة عباد الله فلا يصلح لهم هذا المقام ولا يكلفون به ؟
في قصة يوسف عليه السلام مجموعة من الابتلاءات قد يتعرض وقد لا يتعرض لها النبي أي نبي قد نقول إن المطلوب هو بيان مقام الصبر في المجمل ولكن تفاصيل ما قصه الله منها ما قد يتعرض له النبي صلى الله عليه وسلم ومنها ما يستبعد أصلا أن يتعرض له مثلا الفتنة في العفة ليست من الظروف التي تعرض لها النبي صلى الله عليه وسلم فيما أعلم فتنة الأذى من الإخوة واختبار وابتلاء السجن هي لعوام المسلمين
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم "ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله" هذا المقام مكلف به عموم المسلمين وليس للأنبياء فقط ولا كل الأنبياء تعرضوا لذلك وليست الفتنة في الدين هي الفتنة في العفة فقط.
بعض الناس قد يقع في فتنة في دنياه ولا يكون له مخرج بعفته كمن فاتها الجمال أو فاتها السن ولكنها تعرضت لفتن في الرزق أو الولد أو المرض.
من المفاهيم الخاطئة أن من يتكلمون عن الصبر هم يتكلمون فقط من وراء الميكرفونات أولوحات المفاتيح وقد نقول أن من يتكلم عن الصبر لم ير المصائب والابتلاءات ولم يخبرها ...والحق خلاف ذلك بل كلما زادت المصائب والفواجع التي نراها كلما احتجنا أكثر للحديث عن الصبر والتثبيت
الفتن في الدين كما أشرت لا تنحصر في الفتنة بالوقوع في الرذيلة أو أكل المال الحرام بالسرقة أو الرشوة ولكنها فتن متنوعات ومنها ما هو قلبي وهو أعظم الفتن التي قد يتعرض لها الإنسان كالسخط على رب العالمين سبحانه وشكواه أوسبه سبحانه وتعالى وجل وعلا.
الابتلاءات التي تقع على الإنسان قد يكون له مخرج منها -وغالبا لا يكون - بالاعتداء على حقوق العباد الآخرين أو معصية تتعلق بحقوق الرب عزوجل وقد يباح له في بعض الأحيان الترخص وقد لا يباح له ويكون مكلفا بالصبر أو ليس له سبيل إلا الصبر.
من العجيب قول من يسمح هكذا على العموم لكل من وقع عليه بلاء أو فتنة في أمر من أمور دنياه أن يسقط جملة وتفصيلا حقوق العباد وأن يسقط جملة وتفصيلا حقوق الله.
الصبر ركن ركين من الدين وعماد لحفظ حقوق العباد أيضا فمن من أصحاب العافية يرضى أن يعتدي على حقه من وقع عليه ضيق أو شدة ممن يرى لنفسه حقا أن يخرج من بلائه بأي وسيلة؟
وقال الله عزوجل "كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ" وقال سبحانه "وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ" وهذا خطاب عام لكل إنسان بسيط وعامي أو متعلم يأتي إلى الإنترنت أولا يأتي
إن خلق الصبر هو مغروس في قلوب العباد وهو مرتبط برضاهم عن الله سبحانه ومحبتهم له ومعرفتهم به وهذه ليست مقصورة على المتعلمين أو المتحذلقين - من أمثالنا - ولكنه خلق فطري ينميه المجتمع الإيماني وتثبيت المؤمنين لبعضهم البعض وينميه مواعظ الواقع وأمثلة الصابرين.
إن هذا الفقير الذي ابتلي وهذا الذي عذب وهذا الذي مرض وهذا الذي سجن كما أن له مثلا أعلى من أنبياء الله له مثل وقدوة في عباد الله الصالحين وليست الأمثلة العليا مقصورة على الأنبياء بل لقد رأينا عند عوام الناس ما يشيب له الولدان وتدمع له العيون دما وتتقطع نياط القلوب من المصائب وأيضا ما يذهل العقول ويحير الألباب من الصبر ويلهج الألسنة بالثناء والمحبة لله تعالى الذي وهب لهؤلاء هذا الصبر والتثبيت وتشوق النفس وتحيي حسن الظن بالله أن ينعم علينا بمثل هذا الصبر وأن تكون عافيته أوسع لنا ولكن أن ينعم علينا إذا ابتلانا بمثل هذا الصبر العظيم وألا تكون مصيبتنا في ديننا.
القول لمن ينصح بالصبر "إليك عنا فإنك لا تشعر بعظم المصائب التي نراها أو عظم البلاء الذي وقع بنا" لقد نصح النبي صلى الله عليه وسلم امرأة من عوام المسلمين -لا تعرف النبي صلى الله عليه وسلم- مات ولدها وكانت تبكيه عند قبره فكان ردها له "إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي"
وكانت نصيحته لها صلى الله عليه وسلم "اتقي الله واصبري" لأنها كانت على وشك أن تفتن في دينها وتقع في التسخط على رب العالمين وهذه فتنة يقع فيها كثير من الناس وهذه من الفتنة في الدين أعظم من الرشوة والسرقة وأعظم من الوقوع في حقوق الناس لأنها سبيل الكفر بالله عزوجل وعدم الرضا به واليأس من انتظار فرجه والقنوط من رحمته سبحانه وعدم الإيمان باليوم الآخر والجهل بقدر الدنيا ونسبتها إلى الآخرة والنظر القاصر إلى هذه الحياة على أنها نهاية المطاف والنصر صبر ساعة كما يقال.
إن عبارة هذه المرأة "إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي" كان رده صلى الله عليه وسلم عليها عند اعتذارها "إنما الصبر عن الصدمة الأولى" إن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جاءوا إليه يشتكون شدة البلاء وهذا البلاء قال الله عنه "ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين"
نقص الأنفس هو الموت والمرض وفقد الأحباب والتقطيع والتشريد والجلد والسجن وكان رد النبي صلى الله عليه وسلم على المشتكين لشدة البلاء "قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض ، فيجعل فيها فيؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه ، فيجعل بنصفين ، ويمشط بأمشاط الحديد فيما دون عظمه ولحمه ، فما يصرفه ذلك عن دينه"
يالها من صورة عظيمة من الابتلاء يتصاغر بجوارها ما ينزل بكثير منا من مصائب تضيق الدنيا في عينيه بسببها ونرى في أنفسنا وفي الآفاق صورا عظيمة من الابتلاءات التي نظن ألا أحد يصبر عليها ولكننا لا زلنا نرى الصابرين ونسمع أخبارهم ونعايشهم ونمشي في جنائزهم وندعو لهم. وهذا يعرفنا معنى قوله عزوجل "وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ" فهو صبر بالله ولله
لقد كان هؤلاء الصحابة ومن قبلهم مثالا للصبر ولازلنا نرى بين لحظة وأخرى أمثلة عظيمة على الصبر ونحسبهم من البسطاء ونراهم بيننا ولا نحسب أن لهم مثل هذا الصبر والثبات واليقين
إن بعض الابتلاءات التي تقع بعباد الله وخاصة في الرزق والمرض هو ابتلاء لهم وابتلاء لنا جميعا بواجبات تجب علينا نحوهم أن نأخذ بأيدي الأرامل والعجائز والمطلقات ومن ليس لهن عائل.
وليست معصية الله مخرجا من هذه المصائب وكم وكم وكم رأينا ممن لجأ إلى معصية الله عزوجل لحل مشكلته فلم يزده ذلك إلا خسارا. وقال النبي صلى الله عليه وسلم "والذي نفسي بيده لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له وليس ذلك إلا للمؤمن "
وتأمل قوله صلى الله عليه وسلم وليس ذلك إلا للمؤمن فمنازل الإيمان كلها بين الصبر والشكر
كثير من الناس عندهم مفاهيم مغلوطة عن الصبر
فالبعض يعتقد أن الصبر هو قوة التحمل ويعتقد أن إحساسه بالتعب والمشقة من الابتلاء هو ضد الصبر وليس الأمر كذلك والبعض يعتقد أن الصبر هو أن يكون الإنسان راضيا فرحا بالبلاء أو يتمناه ليثبت لربه أنه صابر والبعض يعتقد أن الصبر هو مرادف للرضا بكل ما يحصل عليه حتى وإن كان يستطيع دفعه بسعيه وكسبه ومقاومته. والبعض يعتقد أن من يقع عليه البلاء ولا يكون له اختيار فيه ولا يكون له مفر لا يسمى صابرا ويعتقد هؤلاء البعض أنه بما أنه ليس له حيلة فليس له ثواب الصابرين
وهذا المفهوم خطأ فكل مبتلى إنما يكون بلاءه قضاء لا يمكنه في كثير من الأحيان دفعه ويستوي في ذلك البر والفاجر ولكن المؤمن يصبر ويحتسب ويرجو الأجر وينتظر الفرج ويتعلق بربه ويرضى عن ربه ويثق في حكمته وينظر إلى الآخرة وما أعده الله للصابرين
إن الصابر لا يبتسم لوقوع المصيبة ويطير بها فرحا وهذه درجة أعلى من الصبر -سمعنا عنها كم قال فزت ورب الكعبة عند مقتله- لا يستطيعها كل أحد ولكن الصابر حابس لنفسه يتعلق قلبه بخالقه ومولاه وينتظر فرجه ويدعوه ويرجوه ويؤمن بحكمته ويتطلع إلى لقاءه ويتشوق إلى ثوابه ولكنه في ذلك يحس بالمصائب ويتألم لها وربما يرى الناس حوله معافين ولكنه لا يتسخط على قضائه سبحانه ولا ييأس من رحمته ويؤمن أن هذه الدنيا كظل شجرة تزول عنه أو يزول عنك.
ومن معاني الصبر وهو أعظمها الصبر عن معصية الله عزوجل والصبر على طاعته والصدع بالحق والجهاد في سبيله فالدوام على الطاعة وإمساك النفس عن المعاصي مع اشتهائها وميل النفس إليها والذي ربما يكون فطريا إليها أو حتى نزول الحاجة والفقر هو من أعظم الصبر وليس فقط الصبر على البلاء .
"والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين"
مع تحيات الفهد الاسود وارجو ان يعجبكم الموضوع
أبو الرعد طالب فعال
عدد الرسائل : 516 العمر : 33 تاريخ التسجيل : 02/04/2008